السؤال الأنسب في لبنان ليس “ما هو اختصاصك”.. بل بماذا تعمل؟
لا تكاد تمرّ فترة وجيزة إلاّ ونسمع بأن شاباً لبنانياً حقّق إنجازاً مميزاً داخل الوطن أو في دول الإغتراب، فاللبناني الطموح والمحب للحياة يسعى دومًا لأن يكون الأفضل، وأن يطّور نفسه في مختلف المجالات، فيدخل إلى الجامعة ويكون هدفه ليس فقط الحصول على شهادة جامعية، إنما التأمين على وظيفة من خلال الاختصاص الذي يتّجه إليه، حتى باتت نسبة الشهادات الجامعية التي يحملها الشباب اللبناني من الأعلى ليس في الدول العربية فحسب، وإنما في العديد من الدول الغربية. إلا أن اللبناني اصطدم في السنوات الأخيرة بعراقيل حالت دون تقدّمه في وطنه، بعدما انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب في مختلف المجالات، وكأن صاعقة صدمت الوطن في لحظة فاجأت الجميع، وفرضت على أبنائه التفتيش عن عمل مهما كانت مواصفاته، بغضّ النظر عن الشهادة التي يتأبطها، من أجل تأمين قوت عيشه والسعي للمحافظة على نمط العيش الذي كان يتنعم به.
“أحوال” تواصل مع شبان وشابات حازوا على شهادات جامعية باختصاصات مختلفة، ولكن الحظ لم يحالفهم بعد في إيجاد وظيفة مناسبة. فهم اليوم إما عاطلين عن العمل او إضطروا لخوض مجالات بعيدة كل البعد عن اختصاصاتهم. فكيف انعكس الواقع عليهم؟ وهل انكسر الحلم في نظرهم؟
رجاء عويس التي تخصّصت في هندسة الديكور، حاولت جاهدة أن تجد عملًا يناسب تخصّصها، فحالفها الحظ وعملت في مكتب للهندسة لحوالي ثلاث سنوات، قبل أن يتوقف المكتب عن دفع الرواتب، فقالت: “بعد أن تركت عملي، عدتٌ من جديد وقدّمت الكثير من الطلبات من الشمال إلى الجنوب، ولكن كانت كلها من دون جدوى خصوصًا أن المحسوبيات لها الأولوية في لبنان”، مضيفة: “بعد فشل كل محاولاتي، اضطررت لظروف خاصة أن أعمل في محل مشهور لبيع السندويشات، ولا أخفي أن مواقف صعبة كانت تواجهني، بحيث كان يأتي عدد من الزبائن الذين يتفاجأون عند رؤيتي وهم كانوا زبائني أيضًا في مكتب الهندسة الذي عملت فيه، ولكنني بعد فترة تزوجت وتركت العمل في محل السندويشات، وحاليًا أنا عاطلة عن العمل.
وختمت عويس كلامها بحسرة: “هذا لبنان الذي تحوّل إلى حالة استثنائية في تدمير مستقبل أبنائه، وليس باليد حيلة”.
قصدنا منزل شاب تخصص في الادارة والتنظيم، ونعرف أنه عاطل عن العمل منذ سنتين تقريبًا، ولكن الكلام كان للأم التي فضّلت إبقاء هويتها مجهولة، فأخبرتنا أن وحيدها جورج قد ترك لبنان منذ فترة قصيرة بعد أن وجد فرصة عمل باختصاصه في دبي، فتنهّدت والدمعة في عينيها قائلة: “لم أتخيل يوماً أن يبتعد عني، ولكن هذا البلد خيّب ظنوننا وخذل أولادنا رغم محبتهم الكبيرة لوطنهم، وها هو ولدي اليوم بعيد عن بيته وعائلته ووطنه، يعمل في الخارج ليؤمّن مستقبله بكرامة بعيدًا عن بلد كسر أحلامه وطموحه”.
أما جو خطار الذي تخصص في الالكترونيك والذي لم يجد أي شركة تأويه رغم براعته في اختصاصه، فاختار أن يلجأ نحو تعلم مهنة، فكانت صناعة وتجارة الالمنيوم هي الأنسب له، حيث بدأ بتعلمها لدى رجل يعمل في المصلحة وبدأ يطوّر نفسه في هذه المهنة، فأصبح يأخذ ورشًا كبيرة وأصبح لديه معمله الخاص، وقال لموقعنا: “رغم أن هذه المهنة لم تكن تعني لي شيئا، ولكن للضرورة أحكام، فاضطررت بعدما تخرجت ولظروف صحية في العائلة أن أعمل في أي مهنة أجدها أمامي، ولكن يبقى التخصّص الذي اخترته غصّة في قلبي لكوني لم أتمكن نتيجة الظروف المحيطة بي وبالبلد عامة أن أعمل به”، مضيفًا: “لكنني لم أندم بأنني خضت المجال الذي أعمل فيه اليوم، لأنني لو أردت انتظار عمل باختصاصي لكنت لليوم متسولاً ربما”.
بدورها، الشابة ريتا بو عبود قالت: “تخصّصت في المعلوماتية وكانت أحلامي كبيرة بالرغم من أن البلد لم نره يومًا يوفّر لنا أساسيات الحياة، بل دائما كنا نرى الفساد والظلم والفقر والبطالة”، مضيفة: “أنا اليوم أعمل في التدريس الخصوصي بحيث أتابع عددًا من التلامذة، ولكن طبعًا هذا لا يكفي، ولم يكن هذا طموحي، وما زال حلمي (إذا بقيت أحلام في بلدنا) أكبر من ذلك بكثير، وأتمنى أن أجد ما أتطلّع إليه”.
الثابت أن لبنان الذي اشتهر بنظامه التربوي وبثقافة أبنائه وحبّهم للعلم، ها هو اليوم وكأنه يقف حجر عثرة بوجه الشباب الذين اجتهدوا للحصول على شهاداتهم الجامعية، ولكن ما لبثوا أن اصطدموا بواقع كان له الأثر الأكبر عليهم، فتحقيق الأحلام في لبنان أصبح بعيد المنال، والقبول بالأمر الواقع أصبح هو الحل، على أمل أن تُطوى هذه المرحلة غير المسبوقة بأقل قدر من الخسائر.
مرسال الترس